فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال عبد الكريم الخطيب:

(89) سورة الفجر:
نزولها: مكية.
نزلت بعد سورة الليل.
عدد آياتها: ثلاثون آية.
عدد كلماتها: مائة وسبع وعشرون كلمة.
عدد حروفها: خمسمائة وتسعة وتسعون حرفا.
مناسبتها لما قبلها:
هذه السورة، هي امتداد لعرض آيات من قدرة اللّه سبحانه وتعالى، وما أخذ به المكذبين بالحياة الآخرة، الذين لم يؤمنوا باللّه، ولم يصدقوا بما جاءهم على يد رسل اللّه من آيات مبصرة..
التفسير:
الليالي العشر.. ما تأويلها:
قوله تعالى: {والفجر وَلَيالٍ عشر وَالشَّفْعِ والوتر وَاللَّيْلِ إِذا يسر هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذي حجر}؟
هذه خمسة أقسام، أقسم اللّه سبحانه وتعالى بها، مفتتحا بها هذه السورة الكريمة..
وهى: الفجر، والليالي العشر، والشفع، والوتر، والليل..
والفجر، معروف في اللغة، ودلالته محددة لا اختلاف عليها.. وهو أول مطلع النهار، في جلد الليل الأسود..
أما الشفع، فهو الزوج من كل شيء.. فالاثنان في العدد شفع، والاثنان من الناس، أو الأنعام، أو الشجر، شفع.. وذلك على خلاف الوتر، الذي يدل على واحد فرد، لم يشفع بواحد آخر من جنسه..
ولكن ما دلالة: {ليال عشر}.. إنها إذا أخذت على إطلاقها، صحّ أن يقال إنها أي ليال عشر مقتطعة من ليالى الزمن على امتداده، فهى إذن ليست ليال على صفة خاصة، ولهذا جاءت منكّرة، ومع هذا فقد كثرت فيها أقوال المفسرين، فقيل هي الليالي العشر الأولى من ذي الحجة، وقيل هي العشر الأواخر من رمضان، التي بدئ بنزول القرآن فيها، والتي فيها ليلة القدر، وقيل هي عشر ليالي موسى التي كانت من الليالي الأربعين التي واعده اللّه سبحانه وتعالى فيها، كما يقول تبارك اسمه: {وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْممناها بِعشر} (142: الأعراف).. وقيل، وقيل كثير غير هذا..
وكذلك كانت المقولات في الشفع، والوتر.. فقيل إن الشفع صلاة الصبح، والوتر صلاة المغرب، وقيل إن الشفع هو الخلق، وما فيه من تزاوج بين المخلوقات، كالذكر والأنثى، والليل والنهار، والأرض، والسماء، والخير والشر.. ونحوها.. والوتر، هو الخالق سبحانه وتعالى، لأنه جل شأنه الواحد، المتفرد بالوحدانية..
ولم يخل من هذا الاختلاف إلا (الليل) فهو الذي أجراه المفسرون على إطلاقه.. حتى (الفجر) الذي قلنا إن دلالته محدودة في اللغة، لم يسلم من هذا الخلاف، فالذين قالوا إن الليالي العشر، هي العشر الأواخر من ذى الحجة- قالوا إن الفجر هو فجر الليلة العاشرة التي تمّ فيها مناسك الحج، وتنحر مع فجرها الأضحيات.
وتقطيع الوحدة الزمنية مع هذه الأوقات التي أقسم اللّه سبحانه وتعالى بها، يجعل الجمع بينها خلوا من المناسبة التي تجمع بينها، وتؤلف منها كيانا متسقا متلاحما، الأمر الذي لا يفوت النظم القرآني، في أي موضع يجتمع فيه شيء إلى شيء، سواء أكان هذا الجمع على سبيل التوافق أو التضاد.
ولعل خير موقف نأخذه عند النظر في هذه الأقسام، للخروج من هذا التضارب في دلالاتها، هو أن نقف بها عند مدلولها اللفظي، مطلقا من كل قيد.
فالفجر، هو الفجر.. أي فجر يكون!
والليالي العشر: هي ليال عشر، من أي ليالي الزمن كله على امتداده.
والشفع والوتر، هو العدد الزوجي، أو الفردي، من الليالي.
والليل، هو أي ليل يقابل النهار، من أي يوم من أيام الزمن.
وفى هذا نجد أن المقسم به هنا هو الزمن، في وحدات زمنية منه، هي:
الفجر، والليل، وعشر ليال من هذا الليل.
أما الشفع والوتر، وإن لم يكن من المتعين أن المعدود بهما قطع من الزمن، فإن السياق الذي جاءا فيه، يقضى بأن يكون المعدود- زوجا أو فردا- قطعا من الزمن، وأقرب هذه القطع أن تكون من الليالي، شفعا أو وترا..
إذ سبقهما قوله تعالى: {وليال عشر} وهى عدد شفع، وتلاهما قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذا يسر} وهو عدد وتر! ويكون القسم بالليالي العشر جملة، ثم القسم بها ليلتين ليلتين، وليلة ليلة.
فإذا ذهبنا- وهذا من التكلف الذي لا بأس به- إذا ذهبنا نلتمس الحكمة في القسم بهذه القطع من الزمن، دون غيرها: فإنا نقول- واللّه أعلم- إن القسم بالفجر إشارة إلى تفجر النور من أحشاء هذا الظلام الموحش، الذي يطبق على الوجود ويلفه في رداء ثقيل، أشبه بالأكفان التي يلف فيها الموتى..
إنه إشارة إلى بعث جديد للحياة، ودعوة مجددة للأحياء أن يكتحلوا بهذا النور، وأن يأخذوا مواقفهم فيه على طريق العمل.
والليالي العشر، هي الليالي العشر الأولى من أول كل شهر قمري، وهى الليالي العشر في وسطه، ثم هي الليالي الأخيرة منه، فهي عشر في أول الشهر القمري، وعشر في وسطه، وعشر في آخره.
ويكاد يكون سلطان القمر في العشر الليالي الأولى من الشهر، وفى العشر الأواخر منه- يكاد يكون سلطانه على حدّ سواء فيهما، من حيث غلبة الظلام عليه.. أما عشر الليالي المتوسطة بين العشر الأولى والأخيرة، فهي التي يكون سلطان القمر فيها غالبا على ظلام الليل.
وعلى هذا يكون الشفع، هو العشر الليالي الأولى، والعشر الأخيرة من كل شهر قمري. باعتبارهما وحدتين زمنيتين متماثلتين.
وأما الوتر، فهو العشر الليالي المتوسطة من الشهر، باعتبارها وحدة زمنية واحدة! ومن هذا يكون القسم بالليالي العشر، واقعا على الليالي كلها، في امتداد الزمن، ولكن مع دعوة إلى مراقبة الزمن، وملاحظة التغيرات التي تجرى على الليل.. ليلة ليلة.. فالليل يلبس في كل ليلة ثوبا جديدا مع القمر على مدى ثلاثين ليلة.. ثم يعود فيبدأ دورته من جديد معه، من هلال إلى بدر، إلى محاق..
وقوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذا يسر}- هو إطلاق لليل من هذا القيد الذي شدّه إلى القمر ودورته معه.. فهو ليل مطلق، يسرى في غلالته السوداء، مع القمر في كل منزل من منازله منه.. فهو في كل حال، ليل يسرى، وببسط سلطانه على الكائنات، وأنه لا يوقف مسيرة الليل إلا الفجر..
وفى التعبير عن حركة الليل بالسّرى: {إذا يسر} إشارة إلى أنه يتحرك في مسيرته والأحياء نيام لا يشعرون به، كما يتحرك الذين يسيرون فيه دون أن يشعر بهم أحد..
فالأقسام- كما ترى- هي أقسام بوحدات من الزمن، وفى هذه الوحدات، يبدو الزمن كائنا حيّا، يعايش الناس، ويشاركهم تقلبهم في الحياة، وفى هذا ما يبعث على النظر، والتدبر، والتفكر، مما يكشف عن قدرة الخالق وعظمته، وحكمته.
وبهذه المراقبة للزمن، والالتفات الواعي إلى حركته، يعرف الإنسان قيمة الزمن- ويحرص على الانتفاع بكل لحظة تمر منه.
وقوله تعالى: {هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذي حجر} الحجر: العقل، وسمى العقل حجرا، لأنه يحجر صاحبه ويحميه من الضلال والضياع، ومنه الحجر على السفيه، صيانة لما له، من تصرفاته الحمقاء.. ومنه سميت الحجرة، لأنها تحجر من يداخلها، وتحميه من الحر، والبرد، ومن أيدى اللصوص، ونظرات المتلصصين.. والاستفهام هنا دعوة إلى أصحاب العقول أن ينظروا في هذه الأقسام التي تمجد من شأن الزمن، وتجعل من كل قطعة منه آية من آيات القدرة الإلهية، لا يراها إلا أصحاب العقول، ولا يدرك سر القسم بها إلا أولو البصائر والأبصار وفى دعوة العقول إلى النظر والملاحظة لسير الزمن وحركاته بالليل، إشارة إلى أن الليل هو الوقت الذي تهدأ فيه النفس، وتسكن الجوارح، فيجد العقل فيه فرصته للانطلاق، والقدرة على التأمل، والتفكير.. كما أن أكثر الناس يغفلون عن الليل، ولا يرونه إلا قبرا يحتوى أجسامهم، فلا يكون لهم وجود فيه، ولا يكون لعقولهم تعامل معه، في حين أنه يمثل جزءا كبيرا من حياتهم يعادل نصف هذه الحياة.. وإنه لخسران عظيم للإنسان أن يدع هذا النصف من عمره يذهب هباء، فكيف بمن يخسر عمره كلّه؟. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{والفجر (1)} القَسَم بهذه الأزمان من حيث إن بعضها دلائل بديع صنع الله وسعةِ قدرته فيما أوجد من نظام يُظاهر بعضه بعضاً من ذلك وقتَ الفجر الجامع بين انتهاء ظلمة الليل وابتداء نور النهار، ووقت الليل الذي تمحضت فيه الظلمة.
وهي مع ذلك أوقات لأفعال من البر وعبادةِ الله وحده، مثل الليالي العشر، والليالي الشفع، والليالي الوتر.
والمقصود من هذا القَسَم تحقيق المقسم عليه لأن القسم في الكلام من طرق تأكيد الخبر إذ القسم إشهاد المُقسِم ربه على ما تضمنه كلامه.
وقسم الله تعالى متمحض لقصد التأكيد.
والكلام موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما دل عليه قوله: {ألم تر كيف فعل ربك بعاد} [الفجر: 6] وقوله: {إن ربك لبالمرصاد} [الفجر: 14].
ولذلك فالقسم تعريض بتحقيق حصول المقسم عليه بالنسبة للمنكرين.
والمقصد من تطويل القسم بأشياء، التشويقُ إلى المقسم عليه.
و{الفجر}: اسم لوقتتِ ابتداء الضياء في أقصى المشرق من أوائل شعاع الشمس حين يتزحزح الإِظلام عن أول خط يلوح للناظرِ مِنَ الخطوط الفرضية المعروفةِ في تخطيط الكرة الأرضية في الجغرافيا ثم يمتد فيضيء الأفق ثم تظهر الشمس عند الشروق وهو مظهر عظيم من مظاهر القدرة الإلهية وبديع الصنع.
فالفجر ابتداء ظهور النور بعد ما تأخذ ظلمة الليل في الإِنصرام وهو وقت مبارك للناس إذ عنده تنتَهي الحالة الداعية إلى النوم الذي هو شبيه الموت؛ ويأخذ الناس في ارتجاع شعورهم وإقبالهم على ما يألفونه من أعمالهم النافعة لهم.
فالتعريف في {الفجر} تعريف الجنس وهو الأظهر لمناسبة عطف {والليل إذا يسر}.
ويجوز أن يراد فجر معين: فقيل أريد وقت صلاة الصبح من كل يوم وهو عن قتادة.
وقيل: فجر يوم النحر وهو الفجر الذي يكون فيه الحجيج بالمزدلفة وهذا عن ابن عباس وعطاء وعكرمة، فيكون تعريف {الفجر} تعريف العهد.
وقوله: {وليال عشر}: هي ليال معلومة للسامعين موصوفة بأنها عشر واستُغني عن تعريفها بتوصيفها بعشر وإذ قد وصفت بها العدد تعين أنها عشر متتابعة وعدل عن تعريفها مع أنها معروفة ليتوصل بترْك التعريف إلى تنوينها المفيد للتعظيم وليس في ليالي السَّنة عشر ليال متتابعة عظيمة مثل عشر ذي الحجّة التي هي وقتُ مناسك الحج، ففيها يكون الإِحرام ودخول مكة وأعمال الطواف، وفي ثامنتها ليلة التروية، وتاسعتها ليلة عرفة وعاشرتها ليلة النحر.
فتعين أنها الليالي المرادة بـ: {ليال عشر}.
وهو قول ابن عباس وابن الزبير، وروى أحمد والنسائي عن أبي الزبير (المكي) عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن العشر عشر الأضحى» قال ابن العربي: ولم يصح وقال ابن عساكر: رجاله لا بأس بهم وعندي أن المتن في رفعه نكارة.اهـ.
ومناسبة عطف {ليال عشر} على {الفجر} أن الفجر وقت انتهاء الليل، فبينه وبين الليل جامع المضادة، والليل مظهر من مظاهر القدرة الإلهية فلما أريد عطفه على الفجر بقوله: {والليل إذا يسر} خصت قبل ذكره بالذكرِ ليال مباركة إذ هي من أفراد الليل.
وكانت الليالي العشر معينة من الله تعالى في شرع إبراهيم عليه السلام ثم غيرت مواقيتها بما أدخله أهل الجاهلية على السَّنة القمرية من النسيء فاضطربت السنين المقدسة التي أمر الله بها إبراهيم عليه السلام.
ولا يُعرف متى بدأ ذلك الاضطراب، ولا مقاديرُ ما أدخل عليها من النسيء، ولا ما يضبط أيام النسيء في كل عام لاختلاف اصطلاحهم في ذلك وعدم ضبطه فبذلك يتعذر تعيين الليالي العشر المأمور بها من جانب الله تعالى، ولكننا نوقن بوجودها في خلال السنة إلى أن أوحى الله إلى نبيئه محمد صلى الله عليه وسلم في سنة عشر من الهجرة عام حجة الوداع، بأن أشهر الحج في تلك السنة وافقت ما كانت عليه السنةُ في عهد إبراهيم عليه السلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض».
وهذا التغيير لا يرفع بركة الأيام الجارية فيها المناسك قبل حجة الوداع لأن الله عظمها لأجل ما يقع فيها من مناسك الحج إذ هو عبادة لله خاصة.
فأوقات العبادات تعيين لإِيقاع العبادة فلا شك أن للوقت المعين لإيقاعها حكمة علمها الله تعالى ولذلك غلب في عبارات الفقهاء وأهل الأصول إطلاقُ اسم السبب على الوقت لأنهم يريدون بالسبب المعرّف بالحكم ولا يريدون به نفسَ الحِكمة.
وتعيين الأوقات للعبادات مما انفرد الله به، فلأوقات العبادات حرمات بالجعل الرباني، ولكن إذا اختلت أو اختلطت لم يكن اختلالها أو اختلاطها بقاض بسقوط العبادات المعينة لها.
فقسمُ اللَّه تعالى بالليالي العشر في هذه مما نزل بمكة قسم بما في علمه من تعيينها في علمه.
و{الشفع}: ما يكون ثانياً لغيره، و{الوَتْر}: الشيء المفرد، وهما صفتان لمحذوف، فعن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن الشفع يوم النحر» ذلك لأنه عاشر ذي الحجة ومناسبة الابتداء بالشفع أنه اليوم العاشر فناسب قوله: {وليال عشر}، وأن الوتر يوم عرفة رواه أحمد بن حنبل والنسائي وقد تقدم آنفاً، وعلى هذا التفسير فذكر الشفع والوتر تخصيص لهذين اليومين بالذكر للاهتمام، بعد شمول الليالي العشر لهما.
وفي (جامع الترمذي) عن عِمران بن حُصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الشفع والوتر والصلاةُ منها شفع ومنها وتر».
قال الترمذي: وهو حديث غريب وفي العارضة أن في سنده مجهولاً، قال ابن كثير: وعندي أن وقفه على عمران بن حصين أشبه.
وينبغي حمل الآية على كلا التفسيرين.
وقيل: الشفع يومان بعد يوم منَى، والوتر اليوم الثالث وهي الأيام المعدودات فتكون غيرَ الليالي العشر.
وتنكير {ليال} وتعريف {الشفع والوتر} مشير إلى أن الليالي العشر ليال معينة وهي عشر ليال في كل عام، وتعريف {الشفع والوتر} يؤذن بأنهما معروفان وبأنهما الشفع والوتر من الليالي العشر.
وفي تفسير {الشفع والوتر} أقوال ثمانية عشر وبعضها متداخل استقصاها القرطبي، وأكثرها لا يَحسن حمل الآية عليه إذ ليست فيها مناسبة للعطف على {ليال عشر}.
وقرأ الجمهور: {والوتر} بفتح الواو وهي لغة قريش وأهل الحجاز.
وقرأه حمزة والكسائي وخلف بكسر الواو وهي لغة تميم وبَكر بن سَعْد بن بكر وهم بنو سعد أظآر النبي صلى الله عليه وسلم وهم أهل العالية، فهما لغتان في الوتر.
بمعنى الفرد.
و{الليل} عطف على {ليالي عشر} عطف الأعم على الأخص أو عطف على {الفجر} بجامع التضاد.
وأقسم به لما أنه مظهر من مظاهر قدرة الله وبديع حكمته.
ومعنى يسري: يمضي سائراً في الظلام، أي إذا انقضى منه جزء كثير، شُبه تقضي الليل في ظلامه بسير السائر في الظلام وهو السُّرى كما شبه في قوله: {والليل إذ أدبر} [المدثر: 33] وقال: {والليل إذا سجى} [الضحى: 2]، أي تمكن ظلامه واشتد.
وتقييد {الليل} بظرف {إذا يسر} لأنه وقت تمكن ظلمة الليل فحينئذ يكون الناس أخذوا حظهم من النوم فاستطاعوا التهجد قال تعالى: {إن ناشئة الليل هي أشد وطأً وأقوم قيلاً} [المزمل: 6] وقال: {ومن الليل فاسجد له وسبحه} [الإنسان: 26].
وقرأ نافع وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب: {إذا يسري} بياء بعد الراء في الوصل على الأصل وبحذفها في الوقف لرعي بقية الفواصل: {الفجر}، {عشر}، {والوتر}، {حجر} ففواصل القرآن كالأسجاع في النثر والأسجاعُ تعامل معاملة القوافي.
قال أبو علي: وليس إثباتُ الياء في الوقف بأحسن من الحذف، وجميع ما لا يحذف وما يُختار فيه أن لا يحذف (نحو القاض بالألف واللام) يُحذف إذا كان في قافيةٍ أو فاصلة فإن لم تكن فاصلة فالأحسن إثبات الياء.
وقرأ ابن كثير ويعقوب بثبوت الياء بعد الراء في الوصل وفي الوقف على الأصل.
وقرأ الباقون بدون ياء وصْلاً ووقفاً، وهذه الرواية يوافقها رسم المصحف إياها بدون ياء، والذين أثبتوا الياء في الوصل والوقف اعتمدوا الرواية واعتبروا رسم المصحف سُنَّة أو اعتداداً بأن الرسم يكون باعتبار حالة الوقف.
وأما نافع وأبو عمرو وأبو جعفر فلا يُوهن رسمُ المصحف روايتهم لأن رسم المصحف جاء على مراعاة حال الوقف ومُراعاةُ الوقف تكثر في كيفيات الرسم.
{هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذي حجر (5)}:
جملة معترضة بين القَسم وما بعده من جوابه أو دليل جوابه، كما في قوله تعالى: {وإنه لقسم لو تعلمون عظيم} [الواقعة: 76].
والاستفهام تقريري، وكونه بحرف {هل} لأن أصل {هل} أن تدل على التحقيق إذ هي بمعنى (قد).
واسم الإشارة عائد إلى المذكور مما أقسم به، أي هل في القسم بذلك قَسم.
وتنكير {قسمَ} للتعظيم أي قسم كافٍ ومُقنع للمُقْسم له.
إذا كان عاقلاً أن يتدبر بعقله.
فالمعنى: هل في ذلك تحقيق لما أُقسم عليه للسامع الموصوف بأنه صاحب حجر.
والحجر: العقل لأنه يَحجر صاحبه عن ارتكاب ما لا ينبغي، كما سمي عقلاً لأنه يعْقِل صاحبه عن التهافت كما يعقِل العِقال البعيرَ عن الضَّلال.
واللام في قوله: {لذي حجر} لام التعليل، أي قَسَم لأجل ذي عقل يمنعه من المكابرة فيعلم أن المقسم بهذا القَسَم صادق فيما أقسم عليه. اهـ.